فصل: ذكر قصد الإفرنج ثغر الإسكندرية حرسها الله تعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر موت العاضد:

وكان موته في يوم الاثنين العاشر من المحرم سنة سبع وستين واستقر الملك للسلطان وكان خطب لبني العباس في أواخر أمر العاضد وهو حي وكانت الخطبة ابتداؤها للمستضيء بأمر الله واستمرت القواعد على الاستقامة وهو كلما استولى على خزانة من المال وهبها وكلما فتح له خزائن ملك أنهبها ولا يبقي لنفسه شيئاً وشرع السلطان في التأهب للغزاة وقصد بلاد العدو وتعبية الأمر لذلك وتقرير قواعده، وأما نور الدين فإنه عزم على الغزاة واستدعى صاحب الموصل ابن أخيه فوصل بالعساكر إلى خدمته وكانت غزاته عرفاً وأخذها في المحرم سنة سبع وستين.

.ذكر أول غزوة غزاها من الديار المصرية:

ولم يزل على قدم بسط العدل ونشر الإحسان وإقامة الإحسان على الناس إلى سنة ثمان وستين فعند ذلك خرج بالعساكر يريد بلاد الكرك والشوبك، وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لا يمكن أن تصل قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدوّ، فأراد توسيع الطريق وتسهيله لتتصل البلاد بعضها ببعض وتسهل على السابلة، فخرج قاصدا لها، فحاصرها وجرى بينه وبين الإفرنج وقعات وعاد عنها ولم يظفر منها بشيء في تلك الواقعة، وحصل ثواب القصد. وإما نور الدين فإنه فتح مرعش في ذي القعدة من هذه السنة وأخذ بها في ذي الحجة.

.ذكر وفاة والده نجم الدين:

ولما عاد السلطان من غزاته بلغه قبل وصوله إلى مصر وفاة أبيه نجم الدين فشق عليه ذلك حيث لم يحضر وفاته. وكان سبب وفاته وقوعه عن الفرس، وكان رحمه الله شديد الركض ولعاً بلعب الكرة بحيث من رآه يلعب بها يقول ما يموت إلاّ من وقوعه عن ظهر الفرس، وكانت وفاته في شهور سنة تسع وستين، ورأى السلطان قوة عسكره وكثرة عدد أخوته وقوة بأسهم، وكان بلغه أنّ باليمن إنساناً استولى عليها وملك حصونها وهو يخطب لنفسه يسمى بعبد النبي بن مهدي، ويزعم أن ينتشر ملكه في الأرض كلها ويستتب الأمر له، فرأى أن يسيّر إليه أخاه الأكبر شمس الدولة الملك المعظّم تورانشاه، وكان كريماً أريحيّا حسن الأخلاق، سمعت منه رحمه الله الثناء على كرمه وحسن أخلاقه وترجيحه على نفسه. وكان توجهه إليها في أثناء رجب سنة تسع وستين، فمضى إليها وفتح الله على يديه، وقتل الخارجي الذي كان بها، واستولى على معظمها وأعطى وأعنى خلقاً كثيرا.

.ذكر وفاة نور الدين محمود ابن زنكي رحمه الله:

وكانت وفاته بسبب حوانيق اعترته أيضا، عجز الأطبّاء عن علاجها، وتوفي يوم الأربعاء في الحادي والعشرين من شوّال سنة تسع وستين، وذلك في قلعة دمشق، وأقام مقامه ولده الملك الصالح إسماعيل. ولقد حكى لي السلطان قال: كان بلغنا عن نور الدين أنّه قصدنا بالدار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف ونخالف ونشق عصاه ونلقى عسكره بمصاف نرده إذا تحقق قصده، وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شيء من ذلك، ولم يزل النزاع بيننا حتى وصل الخبر بوفاته.

.ذكر منافقة الكند بأسوان:

وذلك في شهور سنة تسع وستين.
والكند إنسان مقدم من المصريين، كان قد نزح إلى أسوان، فأقام بها ولم يزل يدبر أمره ويجمع السودان عليه، ويخيل إليهم أنه يملك البلاد ويعيد الدولة مصرية، وكان في قلوب القوم من مهاواة المصريين ما تستصغر هذه الأفعال عنده فاجتمع عليه خلق كثير وجمع وافر، وقصدوا قوس وأعمالها، وانتهى خبره إلى السلطان فجرّد له عسكرا عظيما شاكي السلاح من الذين ذاقوا حلاوة المصرية وخافوا على فوت ذلك منهم، وقدم عليهم أخاه الملك العادل سيف الدين، وسار بهم حتى أتى القوم فلقيهم بمصاف، فكسرهم وقتل منهم خلقاً عظيما، واستأصل شأفتهم وأخمد ثائرتهم، وذلك في السابع من صفر سنة سبعين، واستقرت قواعد الملك واستوت أموره ولله الحمد والمنّة.

.ذكر قصد الإفرنج ثغر الإسكندرية حرسها الله تعالى:

وذلك أن الإفرنج لمّا علموا تغيّرات الأحوال بالديار المصرية وتقلّبات الدول بها داخلهم الطمع في البلاد وجرّدوا عساكرهم في البحر وكانوا في ستمائة قطعة ما بين شاتي وطرادة وبطسة وغير ذلك. وكانوا في ثلاثين ألفاً على ما ذكر، ونازلوا الثغر وذلك في أثناء صفر في السابع منه من هذه السنة، وهي سنة سبعين، فأمدّه السلطان بالعساكر المنصورة وتحرك، وادخل الله في قلوبهم من الخوف والرعب ما لم يمكنهم الصبر معه، وعادوا خائبين خاسرين بعد أن ضايقوا الثغر وزحفوا عليه ثلاثة أيّام وقاتلوا قتالاً شديدا، وعصمه الله منهم. ولمّا أحسّوا بحركة السلطان نحوهم ما لبثوا أن خلّفوا مناجيقهم وراءهم وآلتهم، فخرج أهل البلد إلى نهبها وإحراقها، وكان أمراّ عظيماّ ومن أعظم النعم على المسلمين وأمارة كل سعادة.

.ذكر خروج السلطان إلى الشام وأخذه دمشق:

وأما نور الدين فإنّه خلف ولده الملك الصالح إسماعيل وكان بدمشق. وكان بقلعة حلب ابن الداية شمس الدين علي وشاذ بخت. وكان قد حدّث نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب، فوصل ظاهرها ثاني المحرّم ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين للقائه، فقبض على سابق الدين. ولمّا دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين وأخيه حسن وأودع الثلاثة السجن. وفي ذلك اليوم قتل ابن الخشاب أبو الفضل لفتنة جرت بحلب، ذكروا أنه قتل قبل إمساك أولاد الداية بيوم لأنهم تولّوا ذلك. ولمّ تحقق السلطان وفاة نور الدين وكان ولده طفلاً لا ينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدوّ الله عن البلاد، تجهز للخروج إلى الشام، إذ هو أصل بلاد الإسلام، فتجهّز بجمع كثير من العساكر، وخلف في الديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها ونظم أمورها وسياستها، وخرج هو سائراً مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها، واختلفت كلمة أصحاب الملك الصالح واختلّت تدابيرها وخاف بعضهم من بعض، وقبض على جماعة منهم، وكان ذلك سبب خوف الباقين من فعل ذلك وسبباً لتغيير قلوب الناس عن الصبي، فافتقر الحال أن كاتب شمس الدين بن المقدم السلطان، ووصل البلاد مطالباً بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولّى أمره ويرقب حاله فيقوّم له ما اعوجّ من أمره، فوصل دمشق ولم يشق عليه عصا، ودخلها بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة سبعين، وتسلّم قلعتها. وكان أوّل دخوله إلى دار أبيه، واجتمع الناس إليه وفي جوابه، وأنفق في ذلك اليوم في الناس مالاً طويلاً، وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيّين، وأظهروا الفرح به، وصعد القلعة، واستقرّ قدمه في ملكها، فلم يلبث أن طلب حلب، فنازل حمص فأخذ مدينتها في جمادى الأولى سنة سبعين، ولم يشتغل بقلعتها، وسار حتى أتى حلب، ونازلها في يوم الجمعة سلخ الشهر المذكور وهي الوقعة الأولى.

.ذكر تسيير سيف الدين أخاه عز الدين إلى لقائه:

ولمّا أحسّ سيف الدين صاحب الموصل بما جرى علم أنّ الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه وعلت كلمته، وخاف أنه إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرّ قدمه في الملك وتعدّى الأمر إليه، فجهّز عسكراً وافراً وجيشاً عظيما، وقدّم عليه أخاه عز الدين مسعودا، وساروا يريدون لقاء السلطان، وضرب المصاف معه ووده عن البلاد. ولمّا بلغ السلطان ذلك رحل عن حلب مستهل رجب من السنة المذكورة عائداً إلى حماة، وسار إلى حمص فاشتغل بأخذ قلعتها، فأخذها، ثم وصل عز الدين إلى حلب، وانضمّ إليه من كان بها من العسكر وخرجوا بجمع عظيم. ولمّا عرف هو بسيرهم سار حتى وافاهم في قرون حماة، وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أنّ المصاف ربما نالوا به الغرض الأكبر، والمقصود الأوفر. والقضاء يجر إلى أمور هم بها لا يشعرون. وقام المصاف بين العسكرين بقضاء الله فانكسروا بين يديه وأسر جماعة منهم، ومنّ عليهم وأطلقهم، وذلك في تاسع عشر رمضان سنة سبعين أيضا. ثم سار عقيب انكسارهم ونزل على حلب، وهي الدفعة الثانية، وصالحوه على أن أخذ المعرّة وكفر طاب وأخذ بارين، وذلك في أواخر هذه السنة.

.ذكر مسير سيف الدين بنفسه:

ولمّا وقعت هذه الواقعة كان سيف الدين على سنجار يحاصر أخاه عماد الدين بقصد أخذها منه ودخوله في طاعته، وكان قد أظهر أخوه الانتماء إلى السلطان، واعتصم بذلك، واشتد سيف الدين في حصار المكان، وضربه بالمنجنيق حتى انهدم من سوره ثلم كثيرة، وأشرف على الأخذ، فبلغه وقوع هذه الوقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشتدّ أمره، فراسله إلى الصلح، فصالحه، ثم سار من وقته إلى نصيبين، واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار حتى أتى الفرات، وعبر بالبيرة، وخيّم على جانب الفرات الشامي، وراسل كمشتكين والملك الصالح حتى تستقر قاعدة يصل عليها إليهم، ووصل كمشتكين إليه، وجرت مراجعات كثيرة، وعزم فيها إلى العود مراراً حتى استقرّ اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب، وخرج الملك الصالح إلى لقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إليه وبكى، ثم أمره بالعود إلى القلعة، فعاد إليها وسار هو حتى نزل بعين المباركة، وأقام بها مدّة، وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم، وصعد القلعة جريدة وأكل فيها خبزاً، ونزل وسار راحلاً إلى تل السلطان ومعه الديار البكرية وجمع كثير، والسلطان قد أنفد في طلب العساكر من مصر وهو يترقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدبيرهم وهم لا يشعرون أنّ في التأخير تدبيرا، حتى وصل عسكر مصر، فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة، فبلغهم أنه قارب عسكره، فأخرجوا اليزك وجهزوا من يكشف الأخبار، فوجدوه قد وصل جريدة إلى جناب التركمان، وتفرق عسكره يسقي، فلو أراد الله نصرتهم لقصدوه في تلك الساعة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، فصبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره، واجتمعوا وتعبّوا تعبية القتال، وأصبح القوم على مصاف، وذلك في بكرة الخميس العاشر من شوّال سنة إحدى وسبعين، فالتقى العسكران، وتصادما، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة السلطان بابن زين الدين مظفّر الدين فإنه كان في ميمنة سيف الدين، وحمل السلطان عليه بنفسه، فانكسر القوم واسر منهم جمعاً عظيماً من كبار الأمراء منهم فخر الدين عبد المسيح، فمنّ عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب المحروسة، فأخذ منها خزانة، وسار حتى عبر الفرات، وعاد إلى بلاده، وأمسك هو رحمه الله عن تتبّع العسكر، ونزل في بقيّة ذلك اليوم في خيام القوم، فإنهم كانوا قد أبقوا الثّقل على ما كان عليه والمطابخ قد عملت، ففرّق الإصطبلات ووهب الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين عز الدين فخر وشاه، وسار إلى منبج، وتسلّمها في بقيّة الشهر المذكور. وسار حتى نزل قلعة إعزاز يحاصرها، وذلك في رابع ذي القعدة سنة إحدى وسبعين، وعليها وثب الإسماعيلية عليه، فنجّاه الله من كيدهم، وظفر بهم، ولم يفل ذلك عزمه، وأقام عليها حتى أخذها، وذلك في رابع عشر ذي القعدة من السنة، وسار حتى نزل على حلب في سادس عشر منه، فأقام مدة ثم سار عنها، فأخرجوا إليه ابنة لنور الدين صغيرة، وسألت منه إعزاز، فوهبها إيّاها. وفي بقية الشهر أيضاً وصل شمس الدولة أخوه من اليمن إلى دمشق وأقام بها مدة ثم عاد إلى الديار المصرية، وتوفّي بإسكندرية مستهل صفر سنة ست وسبعون. ثم إنّ السلطان عاد إلى الديار المصرية ليتفقد أحوالها ويقرّر قواعدها، وكان مسيره إليها في ربيع الأوّل من شهور سنة اثنتين وسبعين، واستخلف أخاه شمس الدولة بدمشق، فأقام رحمه الله بها يقرّر قواعدها ويسدّ خللها، وأراح العسكر ثم تأهّب للغزاة، وخرج يطلب الساحل، حتى وافى الإفرنج على الرملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.